فصل: (المجمع العاشر):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى (نسخة منقحة)



.(المجمع العاشر):

ثم كان لهم مجمع عاشر لما مات الملك وولى بعده ابنه، واجتمع فريق المجمع السادس وزعموا أن اجتماعهم كان على الباطل، فجمع الملك مائة وثلاثين أسقفا فثبتوا قول المجمع السادس ولعنوا من لعنهم وخالفهم، وثبتوا قول المجامع الخمسة، ولعنوا من لعنوا وانصرفوا. فانقرضت هذه المجامع والحشود وهم علماء النصارى وقدماؤهم وناقلوا الدين إلى المتأخرين وإليهم يستند من بعدهم، وقد اشتملت هذه المجامع العشرة المشهورة على زهاء أربعة عشر ألفا من الأساقفة والبتاركة والرهبان كلهم يكفر بعضهم بعضا ويلعن بعضهم بعضا، فدينهم إنما قام على اللعنة بشهادة بعضهم على بعض وكل منهم لا عن ملعون.

.لو عرض دين النصرانية على قوم لم يعرفوا لهم إلها لامتنعوا من قبوله:

فإذا كانت هذه حال المتقدمين مع قرب زمنهم من أيام المسيح وبقاء أخيارهم فيهم والدولة دولتهم والكلمة لهم وعلماؤهم إذ ذاك أوفر ما كانوا واحتفالهم بأمر دينهم واهتمامهم به كما ترى، ثم هم مع ذلك تائهون حائرون بين لا عن وملعون لا يثبت لهم قدم، ولا يتحصل لهم قول في معرفة معبودهم، بل كل منهم قد اتخذ إلهه هواه، وباح باللعن والبراءة ممن اتبع سواه، فما الظن بحثالة الماضين، ونفاية الغابرين، وزبالة الحائرين، وذرية الضالين، وقد طال عليهم الأمد، وبعد العهد، وصار دينهم ما يتلقونه عن الرهبان. وقوم إذا كشفت عنهم وجدتهم أشبه شيء بالأنعام، وإن كانوا في صور الأنام، بل هم كما قال تعالى ومن أصدق من الله قيلا {إِن هُم إِلا كالأَنعامِ بَل هُم أَضَلُ سَبيلا} وهؤلاء هم الذين عناهم الله سبحانه بقوله {يا أَهلَ الكِتابِ لا تَغلوا في دينِكُم غَيرَ الحَقِِ وَلا تَتَبِعوا أَهواءَ قَومٍ قَد ضَلوا مِن قَبلُ وَأَضَلوا كَثيراً وَضَلوا عَن سَواءِ السَبيل} ومن أمة الضلال بشهادة الله ورسوله عليهم، وأمة اللعن بشهادتهم على نفوسهم بلعن بعضهم بعضا، وقد لعنهم الله سبحانه على لسان رسوله في قوله صلى الله عليه وسلم: {لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبول أنبيائهم مساجد يحذر ما فعلوه} هذا والكتاب واحد، والرب واحد، والنبي واحد، والدعوى واحدة، وكلهم يتمسك بالمسيح وإنجيله وتلاميذه ثم يختلفون فيه هذا الاختلاف المتباين، فمنهم من يقول إنه إله، ومنهم من يقول ابن الله، ومنهم من يقول ثالث ثلاثة، ومنهم من يقول إنه عبد، ومنهم من يقول إنه أقنوم وطبيعة، ومنهم من يقول أقنومان وطبيعتان، إلى غير ذلك من المقالات التي حكوها عن أسلافهم، وكل منهم يكفر صاحبه. فلو أن قوما لم يعرفوا لهم إلها ثم عرض عليهم دين النصرانية هكذا لتوقفوا عنه وامتنعوا من قبوله. فوازن بين هذا وبين ما جاء به خاتم الأنبياء والرسل صلوات الله عليه وسلامه تعلم علما يضارع المحسوسات أو يزيد عليها: إن الدين عند الله الإسلام.

.القسم الثاني:

.فصل: يستحيل الإيمان بنبي من الأنبياء مع جحد نبوة محمد:

.معجزات محمد أعظم وأدل:

في أنه لا يمكن الإيمان بنبي من الأنبياء أصلا مع جحود نبوة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه من جحد نبوته فهو لبنوة غيره من الأنبياء أشد جحدا وهذا يتبين بوجوه: أحدها: أن الأنبياء المتقدمين بشروا بنبوته وأمروا أممهم بالإيمان به، فمن جحد نبوته فقد كذب الأنبياء قبله فيما أخبروا به وخالفهم فيما أمروا وأوصوا به من الإيمان به، والتصديق به لازم من لوازم التصديق بهم، وإذا انتفى اللازم انتفى ملزومه قطعا وبيان الملازمة ما تقدم من الوجوه الكثيرة التي تفيد بمجموعها القطع على أنه صلى الله عليه وسلم قد ذكر في الكتب الإلهية على ألسن الأنبياء، وإذا ثبتت الملازمة فانتفاء اللازم موجب لانتفاء ملزومه.
الوجه الثاني: أن دعوة محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه هي دعوة جميع المرسلين قبله من أولهم إلى آخرهم، فالمكذب بدعوته مكذب بدعوة إخوانه كلهم، فإن جميع الرسل جاؤوا بما جاء به، فإذا كذبه المكذب فقد زعم أن ما جاء به باطل، وفي ذلك تكذيب كل رسول أرسله الله وكل كتاب أنزل الله، ولا يمكن أن يعتقد أن ما جاء به صدق وأنه كاذب مفتر على الله، وهذا في غاية الوضوح وهذا بمنزلة شهود شهدوا بحق فصدقهم الخصم، وقال هؤلاء كلهم شهود عدول صادقون، ثم شهد آخر على شهادتهم سواء فقال الخصم هذه الشهادة باطلة وكذب لا أصل لها، وذلك تكذيب بشهادة جميع الشهود قطعا، ولا ينجيه من تكذيبهم اعترافه بصحة شهادتهم وإنها شهادة حق مع قوله أن الشاهد بها كاذب فيما شهد به، فكما أنه لو لم يظهر محمد صلى الله عليه وسلم لبطلت نبوات الأنبياء قبله فكذلك إن لم يصدق لم يمكن تصديق نبي من الأنبياء قبله.
الوجه الثالث إن الآيات والبراهين التي دلت على صحة نبوته وصدقه أضعاف أضعاف آيات من قبله من الرسل، فليس لنبي من الأنبياء آية توجب الإيمان به إلا ولمحمد صلى الله عليه وسلم مثلها أو ما هو في الدلالة مثلها وإن لم يكن من جنسها، فآيات نبوته أعظم وأكبر وأبهر وأدل، والعلم بنقلها قطعي، لقرب العهد، وكثرة النقلة، واختلاف أمصارهم وأعصارهم، واستحالة تواطئهم على الكذب، فالعلم بآيات نبوته كالعلم بنفس وجوده وظهوره وبلده، بحيث لا تمكن المكابرة في ذلك، والمكابر فيه في غاية الوقاحة والبهت، كالمكابرة في وجود ما يشاهده الناس ولم يشاهده هو من البلاد والأقاليم والجبال والأنهار، فإن جاز القدح في ذلك كله، فالقدح في وجود عيسى وموسى وآيات نبوتهما أجوز وأجوز، وإن امتنع القدح فيهما وفي آيات نبوتهما فامتناعه في محمد صلى الله عليه وسلم وآيات نبوته أشد؛ ولذلك لما علم بعض علماء أهل الكتاب أن الإيمان بموسى لا يتم مع التكذيب بمحمد أبدا كفر بالجميع، وقال {ما أَنزَلَ اللَهُ عَلى بَشَرٍ مِن شيء} كما قال تعالى: {وَما قَدَروا اللَهَ حَقَ قَدرِهِ إِذ قالوا ما أَنزَلَ اللَهُ عَلى بَشَرٍ مِن شيء} {قُل مَن أَنزَلَ الكِتابَ الَّذي جاءَ بِهِ موسى نُوراً وَهُدىً لِلناسِ تَجعَلونَهُ قَراطيسَ تَبدونُها وَتُخفونَ كَثيرا وَعِلِمتُم ما لَم تَعلَموا أَنتُم وَلا آَباؤكُم} قل: الله. {ثُمَّ ذَرهُم في خَوضِهِم يَلعَبون} قال سعيد بن جبير: جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين؟! وكان حبرا سمينا، فغضب عدو الله وقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء. فقال له أصحابه الذين معه: ويحك ولا موسى؟ فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء، فأنزل الله عز وجل {وَما قَدُروا اللَهَ حَق قَدرِهِ} الآية، وهذا قول عكرمة، قال محمد بن كعب: «جاء ناس من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محتب، فقالوا: يا أبا القاسم، ألا تأتينا بكتاب من السماء كما جاء به موسى ألواحا يحملها من عند الله عز وجل؟ فأنزل الله عز وجل: {يَسألُكَ أَهلُ الكِتابِ أَن تَنزِلَ عَلَيهِم كِتاباً مِنَ السَماءِ فَقَد سَألوا موسى أَكبرَ مِن ذلك} الآية وجاء رجل من اليهود فقال: ما أنزل الله عليك ولا على موسى ولا على عيسى ولا على أحد شيئا، ما أنزل الله على بشر من شيء، فحل رسول الله صلى الله عليه وسلم حبوته، وجعل يقول: ولا على أحد؟!» وذهب جماعة منهم مجاهد، إلى أن الآية نزلت في مشركي قريش، فهم الذين جحدوا أصل الرسالة، وكذبوا بالرسل، وأما أهل الكتاب فلم يجحدوا نبوة موسى وعيسى، وهذا اختيار ابن جرير، قال: وهو أولى الأقاويل بالصواب، لأن ذلك في سياق الخبر عنهم، فهو أشبه من أن يكون خبرا عن اليهود، ولم يجر لهم ذكر يكون هذا به متصلا، مع ما في الخبر عن من أخبر الله عنه من هذه الآية من إنكاره أن يكون الله أنزل على بشر شيئا من الكتب، وليس ذلك مما تدين به اليهود، بل المعروف من دين اليهود الإقرار بصحف إبراهيم، وموسى، وزبور داود، بل المعروف من دين اليهود الإقرار بصحف إبراهيم، وموسى، وزبور داود، بل المعروف من دين اليهود الإقرار بصحف إبراهيم، وموسى، وزبور داود، والخبر من أول السورة إلى هذا الموضع خبر عن المشركين من عبدة الأوثان، وقوله: {وَما قَدروا اللهَ حَقَ قَدرِهِ} موصول به غير مفصول عنه، قلت: ويقوي قوله؛ أن السورة مكية، فهي خبر عن زنادقة العرب، المنكرين لأصل النبوة. ولكن بقي أن يقال: فكيف يحسن الرد عليهم بما لا يقرون به من إنزال الكتاب الذي جاء به موسى؟ وكيف يقال لهم: {تَجعَلونُهُ قَراطيسَ تَبدونَها وَتُخفونَ كَثيراً}؟؟؟ ولا سيما على قراءة من قرأ بتاء الخطاب؟ وهل ذلك صالح لغير اليهود؟ فإنهم كانوا يخفون من الكتاب. ما لا يوافق أهواءهم وأغراضهم، ويبدون منه ما سواه، فاحتج عليهم بما يقرون به من كتاب موسى، ثم وبخهم بأنهم خانوا الله ورسوله فيه، فأخفوا لها وكتمان إلى جحد ما أقروا به كتابهم بإخفائه وكتمانه، فتلك سجية لهم معروفة لا تنكر، إذ من أخفى بعض كتابه الذي يقر بأنه من عند الله، كيف لا يجحد أصل النبوة؟؟ ثم احتج عليهم بأنهم قد علموا بالوحي ما لم يكونوا يعلمونه هم ولا آباؤهم، ولولا الوحي الذي أنزله على أنبيائه ورسله لم يصلوا إليه، ثم أمر رسوله أن يجيب عن هذا السؤال، وهو قوله: {مَن أَنزَلَ الكِتابَ الَّذي جاءَ بِهِ موسى} فقال قل الله: أي الله الذي أنزله، أي إن كفروا به وجحدوه فصدق به أنت وأقربه {ثُمّ ذَرهُم في خَوضِهِم يَلعَبون}؟ جواب هذا السؤال أن يقال: إن الله سبحانه احتج عليهم بما يقر به أهل الكتابين وهم أولوا العلم دون الأمم التي لا كتاب لها، أي إن جحدتهم أصل النبوة وأن يكون الله أنزل على بشر شيئا فهذا كتاب موسى تقر به أهل الكتاب وهم أعلم منكم فاسألوهم عنه، ونظائر هذا في القرآن كثيرة يستشهد سبحانه بأهل الكتاب على منكري النبوات والتوحيد، والمعنى إنكم إن أنكرتم أن يكون الله أنزل على بشر شيئا فمن أنزل كتاب موسى؟ فإن لم تعلموا ذلك فاسألوا أهل الكتاب وأما قوله تعالى: {يَجعَلونَهُ قَراطيسَ يَبدونُها وَيُخفونَ كَثيراً} فمن قرأها بالياء فهو إخبار عن اليهود بلفظ الغيبة، ومن قرأها بلفظ التاء للخطاب فهو خطاب لهذا الجنس الذي فعلوا ذلك أي تجعلونه يأمن أنزل عليه كذلك، وهذا من أعلام نبوته أن يخبر أهل الكتاب بما اعتمدوه في كتابهم، وأنهم جعلوه قراطيس وأبدوا بعضه وأخفوا كثيرا منه، وهذا لا يعلم من غير جهتهم إلا بوحي من الله، ولا يلزم أن يكون قوله {تَجعَلونَهُ قَرَاطيسَ} خطابا لمن حكى عنهم أنهم قالوا {ما أَنزَلَ اللَهُ عَلى بَشَرٍ مِن شيء} بل هذا استطراد من الشيء إلى نظيره وشبهه ولازمه، وله نظائر في القرآن كثيرة كقوله تعالى: {وَلَقَد خَلَقنا الإِنسانَ مِن سُلالَةٍ مِن طين ثُمّ جَعَلناهُ نُطفَةً في قَرارٍ مَكين ثُمّ خَلَقنا النُطفَةَ عَلَقَة فَخَلَقنا العَلَقَةَ مُضغة} إلى آخر الآية، فاستطرد من الشخص المخلوق من الطين وهو آدم إلى النوع المخلوق من النطفة وهم أولاده، وأوقع الضمير على الجميع بلفظ واحد، ومثله قوله تعالى: {هو الَّذي خَلَقَكُم مِن نَفسٍ واحِدَة وَجَعَلَ مِنها زَوجَها لِيَسكُنَ إِليها فَلَما تَغشاها حَمَلَت حَملاً خَفَيفاً فَمَرَت بِهِ فَلَما أَثقَلَت دَعوا اللَهَ رَبَهُما لَئِن آَتَيتنا صالِحاً لَنَكونَنَّ مِنَ الشاكِرين فَلَما آَتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فيما آَتاهُما فَتَعالى اللَهُ عَما يُشرِكون} إلى آخر الآيات، ويشبه هذا قوله تعالى: {وَلَئِن سَألتَهُم مَن خَلَقَ السَمَواتِ وَالأَرضَ لَيُقُولَنّ خَلَقَهُنَّ العَزيزُ العَليم الَّذي نَزَلَ مِنَ السَماءِ ماءً بِقَدرٍ فَأنشَرنا بِهِ بَلدَةً مَيتا كَذَلِكَ تُخرَجون وَالَّذي خَلَقَ الأَزواج كُلَها} إلى آخر الآيات، وعلى التقدير فهؤلاء لم يتم لهم إنكار نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ومكابرتهم إلا بهذا الجحد والتكذيب العام، ورأوا أنهم إن أقروا ببعض النبوات وجحدوا نبوته ظهر تناقضهم وتفريقهم بين المتماثلين، وأنهم لا يمكنهم الإيمان بنبي وجحد نبوة من نبوته أظهر وآياتها أكثر وأعظم ممن أقروا به. وأخبر سبحانه أن من جحد أن يكون قد أرسل رسله وأنزل كتبه لم يقدره حق قدره، وأنه نسبه إلى ما لا يليق به بل يتعالى ويتنزه عنه، فإن في ذلك إنكار دينه وإلهيته وملكه وحكمته ورحمته، والظن السيئ به أنه خلق خلقه عبثا باطلا، وأنه خلاهم سدا مهملا وهذا ينافي كماله المقدس وهو متعال عن كل ما ينافي كماله، فمن أنكر كلامه وتكليمه وإرساله الرسل إلى خلقه فما قدره حق قدره، ولا عرفه حق معرفته، ولا عظمه حق عظمته، كما أن من عبد معه إلها غيره لم يقدره حق قدره معطل جاحد لصفات كماله. ونعوت جلاله وإرسال رسله وإنزال كتبه، ولا عظمه حق عظمته.د علموا بالوحي ما لم يكونوا يعلمونه هم ولا آباؤهم، ولولا الوحي الذي أنزله على أنبيائه ورسله لم يصلوا إليه، ثم أمر رسوله أن يجيب عن هذا السؤال، وهو قوله: {مَن أَنزَلَ الكِتابَ الَّذي جاءَ بِهِ موسى} فقال قل الله: أي الله الذي أنزله، أي إن كفروا به وجحدوه فصدق به أنت وأقربه {ثُمّ ذَرهُم في خَوضِهِم يَلعَبون}؟ جواب هذا السؤال أن يقال: إن الله سبحانه احتج عليهم بما يقر به أهل الكتابين وهم أولوا العلم دون الأمم التي لا كتاب لها، أي إن جحدتهم أصل النبوة وأن يكون الله أنزل على بشر شيئا فهذا كتاب موسى تقر به أهل الكتاب وهم أعلم منكم فاسألوهم عنه، ونظائر هذا في القرآن كثيرة يستشهد سبحانه بأهل الكتاب على منكري النبوات والتوحيد، والمعنى إنكم إن أنكرتم أن يكون الله أنزل على بشر شيئا فمن أنزل كتاب موسى؟ فإن لم تعلموا ذلك فاسألوا أهل الكتاب وأما قوله تعالى: {يَجعَلونَهُ قَراطيسَ يَبدونُها وَيُخفونَ كَثيراً} فمن قرأها بالياء فهو إخبار عن اليهود بلفظ الغيبة، ومن قرأها بلفظ التاء للخطاب فهو خطاب لهذا الجنس الذي فعلوا ذلك أي تجعلونه يأمن أنزل عليه كذلك، وهذا من أعلام نبوته أن يخبر أهل الكتاب بما اعتمدوه في كتابهم، وأنهم جعلوه قراطيس وأبدوا بعضه وأخفوا كثيرا منه، وهذا لا يعلم من غير جهتهم إلا بوحي من الله، ولا يلزم أن يكون قوله {تَجعَلونَهُ قَرَاطيسَ} خطابا لمن حكى عنهم أنهم قالوا {ما أَنزَلَ اللَهُ عَلى بَشَرٍ مِن شيء} بل هذا استطراد من الشيء إلى نظيره وشبهه ولازمه، وله نظائر في القرآن كثيرة كقوله تعالى: {وَلَقَد خَلَقنا الإِنسانَ مِن سُلالَةٍ مِن طين ثُمّ جَعَلناهُ نُطفَةً في قَرارٍ مَكين ثُمّ خَلَقنا النُطفَةَ عَلَقَة فَخَلَقنا العَلَقَةَ مُضغة} إلى آخر الآية، فاستطرد من الشخص المخلوق من الطين وهو آدم إلى النوع المخلوق من النطفة وهم أولاده، وأوقع الضمير على الجميع بلفظ واحد، ومثله قوله تعالى: {هو الَّذي خَلَقَكُم مِن نَفسٍ واحِدَة وَجَعَلَ مِنها زَوجَها لِيَسكُنَ إِليها فَلَما تَغشاها حَمَلَت حَملاً خَفَيفاً فَمَرَت بِهِ فَلَما أَثقَلَت دَعوا اللَهَ رَبَهُما لَئِن آَتَيتنا صالِحاً لَنَكونَنَّ مِنَ الشاكِرين فَلَما آَتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فيما آَتاهُما فَتَعالى اللَهُ عَما يُشرِكون} إلى آخر الآيات، ويشبه هذا قوله تعالى: {وَلَئِن سَألتَهُم مَن خَلَقَ السَمَواتِ وَالأَرضَ لَيُقُولَنّ خَلَقَهُنَّ العَزيزُ العَليم الَّذي نَزَلَ مِنَ السَماءِ ماءً بِقَدرٍ فَأنشَرنا بِهِ بَلدَةً مَيتا كَذَلِكَ تُخرَجون وَالَّذي خَلَقَ الأَزواج كُلَها} إلى آخر الآيات، وعلى التقدير فهؤلاء لم يتم لهم إنكار نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ومكابرتهم إلا بهذا الجحد والتكذيب العام، ورأوا أنهم إن أقروا ببعض النبوات وجحدوا نبوته ظهر تناقضهم وتفريقهم بين المتماثلين، وأنهم لا يمكنهم الإيمان بنبي وجحد نبوة من نبوته أظهر وآياتها أكثر وأعظم ممن أقروا به. وأخبر سبحانه أن من جحد أن يكون قد أرسل رسله وأنزل كتبه لم يقدره حق قدره، وأنه نسبه إلى ما لا يليق به بل يتعالى ويتنزه عنه، فإن في ذلك إنكار دينه وإلهيته وملكه وحكمته ورحمته، والظن السيئ به أنه خلق خلقه عبثا باطلا، وأنه خلاهم سدا مهملا وهذا ينافي كماله المقدس وهو متعال عن كل ما ينافي كماله، فمن أنكر كلامه وتكليمه وإرساله الرسل إلى خلقه فما قدره حق قدره، ولا عرفه حق معرفته، ولا عظمه حق عظمته.
إنكار النبوات معناه جحد الخالق والجهل بالحقائق ما وقع للفلاسفة والمجوس والنصارى واليهود من ذلك ولذلك كان جحد نبوة خاتم أنبيائه ورسله وإنزال كتبه وتكذيبه إنكارا للرب تعالى في الحقيقة وجحودا له، فلا يمكن الإقرار بربوبيته وإلهيته وملكه بل ولا بوجوده مع تكذيب محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. وقد أشرنا إلى ذلك في المناظرة التي تقدمت، فلا يجامع الكفر برسول الله صلى الله عليه وسلم الإقرار بالرب تعالى وصفاته أصلا، كما لا يجامع الكفر بالمعاد واليوم الآخر الإقرار بوجود الصانع أصلا. وقد ذكر سبحانه ذلك في موضعين من كتابه في سورة الرعد في قوله: {وَإِن تَعجَب فَعَجَبٌ قَولُهُم أَئِذا كُنّا تُراباً أَئِنّا لَفي خَلقٍ جَديد أَولئِكَ الَّذينَ كَفَروا بِرَبِهِم} والثاني في سورة الكهف في قوله تعالى: {وَدَخَلَ جَنَتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِِنَفسِهِ قالَ ما أَظُنُ أَن تَبيدَ هَذِهِ أَبداً وما أَظُنُ الساعَةَ قائِمَةً وَلَئِن رُدِدتُ إِلى رَبي لأَجِدَنَّ خَيراً مِنها مُنقَلبا قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفرَت بِالَّذي خَلَقَكَ مِن تُرابٍ ثُمّ مِن نُطفَةٍ ثُمّ سَواكَ رَجُلاً لَكِنّا هُوَ اللَهُ رَبي وَلا أُشرِكُ بِرَبي أَحَدا} فالرسول صلوات الله وسلامه عليه إنما جاء بتعريف الرب تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله والتعريف بحقوقه على عباده، فمن أنكر رسالاته فقد أنكر الرب الذي دعا إليه وحقوقه التي أمر بها؛ بل نقول لا يمكن الاعتراف بالحقائق على ما هي عليه مع تكذيب رسوله، وهذا ظاهر جدا لمن تأمل مقالات أهل الأرض وأديانهم.
فإن الفلاسفة لم يمكنهم الاعتراف بالملائكة والجن والمبدأ والمعاد وتفاصيل صفات الرب تعالى وأفعاله مع إنكار النبوات؛ بل والحقائق المشاهدة التي لا يمكن إنكارها لم يثبتوها على ما هي عليه ولا أثبتوا حقيقة واحدة على ما هي عليه البتة، وهذا ثمرة إنكارهم النبوات فسلبهم الله إدراك الحقائق التي زعموا أن عقولهم كافية في إدراكها، فلم يدركوا منها شيئا على ما هو عليه، حتى ولا الماء ولا الهواء ولا الشمس ولا غيرها. فمن تأمل مذاهبهم فيها علم أنهم لم يدركوها وإن عرفوا من ذلك بعض ما خفي على غيرهم.
وأما المجوس فأضل وأضل. و أما عباد الأصنام فلا عرفوا الخالق ولا عرفوا حقيقة المخلوقات، ولا ميزوا بين الشياطين والملائكة وبين الأرواح الطيبة والخبيثة، وبين أحسن الحسن وأقبح القبيح، ولا عرفوا كمال النفس وما تسعد به ونقصها وما تشقى به.
وأما النصارى فقد عرفت ما الذي أدركوه من معبودهم وما وصفوه به وما الذي قالوه في نبيهم، وكيف لم يدركوا حقيقته البتة، ووصفوا الله بما هو من أعظم العيوب والنقائص، ووصفوا عبده ورسوله بما ليس له بوجه من الوجوه، وما عرفوا الله ولا رسوله، والمعاد الذي أقروا به لم يدركوا حقيقته ولم يؤمنوا بما جاءت به الرسل من حقيقته، إذ لا أكل عندهم في الجنة ولا شرب ولا زوجة هناك ولا حور عين يلذ بهن الرجال كلذاتهم في الدنيا، ولا عرفوا حقيقة أنفسهم وما تسعد به وتشقى، ومن لم يعرف ذلك فهو أجدر أن لا يعرف حقيقة شيء كما ينبغي البتة، فلا لأنفسهم عرفوا ولا لفاطرها وبارئها، ولا لمن جعله الله سببا في فلاحها وسعادتها، ولا للموجودات وأنها جميعها فقيرة مربوبة مصنوعة ناطقها وصامتها آدميها وجنيها وملكها، فكل من في السموات عبده وملكه، وهو مخلوق مصنوع مربوب فقير من كل وجه، ومن لم يعرف هذا لم يعرف شيئا.